الغيبة... حالقة الدين وآكلة الحسنا
الغيبة من الغَيْب “وهو كل ما غاب عنك”، وسميت الغيبة بذلك لغياب المذكور حين ذكره الآخرون.. قال ابن منظور: “الغيبة من الاغتياب.. أن يتكلم خلف إنسان مستور بسوء” والغيبة في الاصطلاح عرفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “أتدرون ما الغيبة؟” قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: “ذكرك أخاك بما يكره”. ولم يرد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم تقييده بغَيبة المذكور، لكنه مستفاد من المعنى اللغوي للكلمة. قال النووي: “الغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره”. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الغيبة إنما تقع فيما يكرهه الإنسان ويؤذيه فقال: “بما يكره” وقال النووي في الأذكار مفصلاً ذلك: ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلْقه أو خُلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته باللفظ أو الإشارة أو الرمز. ومن صور الغيبة كما يقول النووي قولهم عند ذكره: الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة.
ومن صور الغيبة ما قد يخرج عن المرء على صورة التعجب أو الاغتمام أو إنكار المنكر قال ابن تيمية: ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يعمل كيت وكيت.. ومنهم من يخرج الغيبة في قالب، الاغتمام فيقول: مسكين فلان غمني ما جرى له.نفي أبلغ من النهي
قال صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله ولا يظلمه ولا يحقره ولا يُسلمه”، وقال ايضا: “كل المسلم على المسلم حرام، عرضه وماله ودمه، وبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم” رواه البخاري ومسلم.
لا شك أن النفي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغ من النهي، وأن التركيب الخبري آكد في البلاغة من التركيب الإنشائي، ثم يؤكد ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تعاطي أسباب العداوة والبغضاء “لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخواناً” رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
بل إن الشيطان حينما ييأس أن يُعبد غير الله في الأرض يتجه إلى التحريش بين المؤمنين، وإيقاع العداوة والبغضاء فيما بينهم، عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن رضي في التحريش بينهم”.
وقد نُدهش حينما نرى النبي صلى الله عليه وسلم يُبين أن فساد الأخوة بين المؤمنين هي من الخطورة حيث تُفسد عليهم دينهم، وتقطع صلتهم بربهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة، لا أقول: حالقة الشعر، ولكن أقول: حالقة الدين” أخرجه الترمذي.
وليس اضر على الدين وعلى اخوة المؤمنين في الله من آثار الغيبة السيئة فهي التي تمحوَ حسنات المغتاب، ففي يوم القيامة “تذهل كل مرضعة عما أرضعت” وكل يفكر في نفسه دون غيره، وتتقطع الوشائج والأنساب، وتتجلى قيمة الحسنات، فعلينا ألا نذهب بهذه الحسنات الغالية سُدىً أدراج الرياح، فلا يبقى لنا في سوق المحشر أمام الله أي سلعة يعتد بها.
من هو المفلس؟
لنتأمل في هذه الرواية الشريفة:
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أتدرون مَن المفلس؟”، قالوا: المفلس فينا يا رسول الله، مَن لا درهم له ولا متاع، فقال عليه الصلاة والسلام: “المفلس من أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وإن فُنيت حسناته، قبلَ أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم يطرح في النار”.
يا لها من محنةٍ ما أشدها يوم القيامة، إذ تسلب الذنوب المختلفة ولا سيما الغيبة حسناتنا، التي هي بمثابة رؤوس أموالنا في الآخرة، فعلينا أن نتذكر هذه الروايات وأمثالها عندما نريد أن تغتاب لئلا نجر ألسنتنا في كلام لا طائل تحته ولنتذكر حالنا يوم القيامة عندما يقف بوجهنا أخونا في الله الذي كنا نتظاهر له بالمحبة ونغتابه من خلفه، فأيّةُ حالة ستصيبنا من الخجل والحياء، فماذا نعد له جواباً وسيمانا في وجوهنا من أثر اغتيابه؟ ماذا نقول له، لو قال: يا فلان لم أكن لأتوقع منك أن أرى فيك كل هذا، فعلام كنت تغتابني وتريقُ ماء وجهي؟ فمتى ما أردنا أن نغتاب فعلينا أن نتصور مواجهتنا له في عرصات المحشر لئلا نخجل من أنفسنا يوم القيامة.
فقد نغتاب أحداً فيصله خبر اغتيابنا فيعتب علينا فنطوي حديثنا أو نكتم الموضوع عليه وننكره لكن هل ينفع كتماننا عليه غداً يوم القيامة؟ لأن اللسان بنفسه سينطق بإذن الله ويشهد علينا ويقول: يا فلان لا تكتم ولا تنكر فقد اغتبته بي! ربنا نعوذ بك من الفضيحة في يوم القيامة.
فلنتأمل؛ كم أنفقنا وأتلفنا من ساعات عمرنا الغالية في تقصي عيوب لآخرين فلولا كنا أنفقناها وقضيناها في معالجة عيوبنا! وقد ورد في سيرة أحد العلماء الصالحين الأعاظم أنه متى ما سئل عن شخص أو عن سيرته، كان يقول الحمد لله رب العالمين، فيقال له: نراك تحمد الله وتشكره، فيقول: أشكر الله لأني أرى انساناً أصلح عيوب نفسه، وهو اليوم يفكر في شؤون الآخرين ويسأل عن أحوالهم!
يقول الحسن البصري: والله للغيبة أسرع في دين المسلم من الأكلة في جسد ابن آدم، وقال سفيان بن عيينة: “الغيبة أشد من الدّين، الدّين يقضى، والغيبة لا تقضى”. وقال سفيان الثوري: “إياك والغيبة، إياك والوقوع في الناس فيهلك دينك”. وسمع علي بن الحسين رجلاً يغتاب فقال: “إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس”. وقال أبو عاصم النبيل: “لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم”.
مجالس المعصية
قال علي بن ابي طالب رضي الله عنه: كتب رجل لأبي ذر كتاباً يسأله عطاء نفيساً من العلم، فكتب له أبو ذر: ان العلم كثير، إلا أنك إذا استطعت أن لا تسيء إلى أحد فلا تسيء إلى أحد تحبه، واعمل بهذا وكفى. فقال الرجل لأبي ذر: هل رأيت أحداً يسيء إلى مَن يحبه؟، فقال أبو ذر: نعم، إن نفسك أحب الناس إلى نفسك، فمتى عصيت الله، فقد أسأت إلى نفسك.
قال القرطبي: “فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر. فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية”. ودفع الغيبة حين حضورها من أعظم الأعمال، قال صلى الله عليه وسلم: “من ذب عن لحم أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار”. وفي رواية: “من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة”.
قال ابن مسعود: “من اغتيب عنده مؤمن فنصره جزاه الله بها خيراً في الدنيا والآخرة، وما التقم أحد لقمة شراً من اغتياب مؤمن”.
قال المناوي: “ذلك لأن عرض المؤمن كدمه، فمن هتك عرضه فكأنه سفك دمه، ومن عمل على صون عرضه فكأنه صان دمه، فيجازى على ذلك بصونه عن النار يوم القيامة إن كان ممن استحق دخولها، وإلا كان زيادة رفعة في درجاته في الجنة”.
وقد ذب النبي صلى الله عليه وسلم عن عرض من اغتيب عنده، ففي حديث طويل من رواية عتبان بن مالك رضي الله عنه، وفيه قال قائل منهم: أين مالك بن الدخشن؟ فقال بعضهم: ذاك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقل له ذاك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم”.
قال عمر: “ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس لا تغيّروا عليه؟، قالوا: نتقي لسانه، قال: ذاك أدنى أن تكونوا شهداء”.
الغيبة المشروعة
وذكر العلماء بعض الحالات التي تجوز فيها الغيبة لما في ذلك من مصلحة راجحة، ومن هذه الحالات التظلم إلى القاضي أو السلطان أو من يقدر على رد الظلم.
قال تعالى: “لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم” (النساء: 148). وللمستفتي فيما لا طريق للخلاص منه أن يذكر أخاه بما هو له غيبة، ومثل له النووي بأن يقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي أو فلان فهل له ذلك أم لا.
وقد يرى المسلم المنكر فلا يقدر على تغييره إلا بمعونة غيره، فيجوز حينذاك أن يطلع الآخر ليتوصلا الى إنكار المنكر.
ومن هذه الحالات التحذير من الشر والحث على نصيحة المسلمين فقد جاءت فاطمة بنت قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستشيره في أمر خطبتها وقد خطبها معاوية وأبو الجهم وأسامة بن زيد فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: “أما معاوية فرجل ترب لا مال له، وأما أبو الجهم فضراب للنساء، ولكن أسامة بن زيد”.
ومنها ايضا المجاهر بنفسه المستعلن ببدعته: قال الحسن البصري: ليس لصاحب البدعة ولا الفاسق المعلن بفسقه غيبة وقال زيد بن أسلم: إنما الغيبة لمن لم يعلن بالمعاصي.ي